قالوا عن شعره

أُنسي الحاج

أُنسي الحاج يكتب عن ماهر شرف الدين

 

يكتب ماهر شرف الدين حبَّه وفجائعه بقَدْر واحد من الشهيّة. وعيه يختار من لا وعيه، يقظته تأخذ نومه من يده أَخْذ الأب بيد الابن. يكتب امرأته بفرحة الفرحين بالمولود.

إقبال شَلّاليّ، بين إبحار في التغزّل الجسدي وإمعانٍ جَسَديّ في التغزّل. الشَبَق يحتفل تحت قبّة العبادة. شعر يتنقّل بين المرثية والتهليل. كتاب «العروس» يعانق العروس ويواجه الموت.

استوقفني ماهر شرف الدين من أول كتابة قرأتُها له. التركيز الحاد. الانطباع الهارب عادةً، ممسوكاً حيّاً. المُبْهم محسوساً، مُبَلْوَراً بوهج. الظلمة مُنَصَّعَة. الضحيّة منتقمة بدم القول.
هؤلاء الآتون من وراء الجبل، المعمَّدون بالرقّة والجبروت، المارّون بيننا كالشُهُب، من سوريا، العراق، الخليج، الناجون من الغَرَق، من أنفسهم، كلّما قرأت أحداً منهم شعرتُ بالذنب. كأن لياليهم فوق ليالينا. أتذكّر حين في أواخر الخمسينات «وصل» أدونيس وخالدة سعيد ومحمد الماغوط إلى بيروت. ونذير العظمة. ثم، دَوريّاً، بدر شاكر السيّاب، جبرا إبراهيم جبرا… اليوم تأتي أجيال أخرى حاملة كتبها ومخطوطاتها الغريبة وأعماقها المُخزَّنة وأصواتها المحفَّرة بالكتمان.

القاطعون إلينا من وراء الجبل نفرح بهم فرحة مَن يقع على واحة في الصحراء. ننسى أننا نحن أيضاً على وشك التصحّر. ضحكة الديك المذبوح تَنشر فينا وَهْم الجَلَبة، تَرْبطنا بما لم يأخذنا بعد. القاطعون إلينا، الواصلة أصواتهم إلينا، كانوا يَنْجون بنا وأصبحنا ننجو بعضنا ببعض. شهداء خَرَجوا من تماثيلهم. أدباء تعلّموا الصمت قبل أن يتعلّموا الكلام. شعراء العيون المحروقة باليأس، المرمّمة بالعشق، التي ترمي على الأشياء نظرات القتيل. نخجل أمامهم من حرّيتنا. يَخجلون أمامنا من حرّيتنا. بيروت كانت وستبقى لهم عاصمة روحهم، مدينة النجاة الهالكة، وبعض فتنتها زرعه افتتانهم بها، والفصام الخلّاق الذي سبّبه لهم عذابها.

أحدث الواصلين ماهر شرف الدين. في «العروس» تُواصل المعاني تدفّقها فوق الكلمات: “سحبتْ شِباكها من ظهري. اصطادت سمكي. هي ذي النشوة (…) النشوة البيضاء كحليب التين والفاسقة كشَجَرة رصيف (…) تتنفّسين كالأشجار بلا جَلَبة. جنادب نظراتكِ تقفز أمامنا (…) النشوة أبونا وأمّنا، لا يقطف أكوازها إلاّ الذين اشتهوا لحماً أسود لامرأة بيضاء”.
المعشوقة شفافية صوفيّة وكرزة تُقْضَم، يُحْتَفل بجسدها حذفاراً وراء حذفار.

رغبة وحنوّ، غَرَق وإحاطة. وهنا، تُدَشّن الكتابة لا بهاجس التجديد الفنّي بل من مبتدأ النفس، مبتدأ الغريزة، مبتدأ ميتة أو ميتاتٍ خُرِج منها إلى الثأر باللغة وإلى الحياة بضُعف الحبّ وقوّة الشعر.

معاناة سحيقة تدمع بها حروف أدباء العرب الحديثين. نلمسها حتّى في كتابات المفكّرين السياسيين والصحافيين. حروفهم تَدْمع كعيون الحِجاب. أجمل من الصراخ، أَحْرَر من الحريّة. سطوتهم على الشَلَل، صلابتهم الهادئة، قدرتهم على صون الذات، على الاجتياز، على هذا السعال الأشبه بمشاعل تحت الأرض.

أُنسي الحاج، جريدة “الأخبار”، 24  شباط 2007

 

ماهر شرف الدين رئيس القافلة.

أُنسي الحاج، جريدة “الأخبار”، 14 أيلول 2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى